لم يعد اليمن (الشمال) متصالحاً مع التاريخ والجغرافيا، ولم يعد مستقلاً بطبيعته ومنهجه أو بمواقفه وعلاقته بمحيطه، بل أصبح جزءاً من منظومة اقليمية، طائفية، وعضواً أساسياً وفاعلاً في حلف عقائدي فولاذي يتبع نظام ولاية الفقيه. وأصبحت طهران هي عاصمة العواصم والمركز المقدس، وباتت ضاحية بيروت أقرب إلى صنعاء من صنعاء ذاتها ومليشيات العراق أهم وأعلى شأناً من أحزاب اليمن ومن تاريخ وحاضر “الحركات الوطنية والسياسية”. لقد انصهر اولئك جميعاً في حضن راعيهم ومولاهم في محور واحد، لا يكاد يشتكي طرف حتى يتداعى له الآخرون بالنفير والإسناد. ولديهم هدف واحد وبواعث مشتركة وعقيدة صلبة تضعهم في (رباط) متين قابل للحياة لعقود. وربما يتغير بهم وبفشل خصومهم وجه المنطقة. القوى الوطنية (كما تسمى) بجيوشها وخبرتها ومكرها التاريخي فشلت في منع ذلك الانزلاق إلى كهوف الماضي البعيد. كما أن (الشق السني) من الإسلام السياسي، الذي يشكل الوجه الآخر للأزمة، مقيّد عقائدياً بأولويات غير وطنية يختار على أساسها مواقف انتقائية داخلياً وخارجياً. أما ما تبقى من النخب القيادية ومن قواعد الأحزاب فقد تفرق شملها وأصبحت ضعيفة خارج جغرافيا الفعل الحقيقي ولزمن طويل. لم تبق إذن أي مساحة للوهم. لقد فك اليمن ارتباطه فعلياً بتاريخه.. بالملكيات القديمة والجمهوريات وبكل “اليمنات” بطبقاتها السياسية و زخمها الاجتماعي، وحتى المستقبل الذي تم بناء أقاليمه بزخارف الجص الصنعاني الملون على طاولات “الموفنبيك” تم سحقه نهائياً ولم يعد احد يتذكر تلك النشوة المهرجانية في لهجة الثوار المصنعين إعلامياً (حينها) أو في تأتأة المشائخ. وعلى خلفية تلك الحقائق يصبح أي حديث عن الأقاليم، مجرد واحدة من الحيل التكتيكية، أدمنت عليها بعض القوى التي أثبتت منذ تأسيسها عجزاً مستداماً عن تحقيق أي نجاح أصيل وثابت. كما أنها خطوة في سياق المحاولات المتكررة لرمي الشباك بين أقدام الجنوبيين كي يتعثروا بها و تتوه مساراتهم. وهذا سلوك من يمتهن التربص السياسي عند كل استحقاق ويثبت أن لا همّ له في كل التراجيديا اليمنية سوى تفريغ قضية الجنوب من محتواها الحقيقي. لقد استكمل أنصار الله انتزاع الدولة والشعب والمستقبل، ويتحولون تدريجيا إلى قوة إقليمية خطرة بعد تسع سنوات من عجز التحالف والشرعية، و لديهم طريق مختلف ومستقبل دولتهم واضح المعالم والمسار حتى وإن ذهبوا في عملية سلام فإنهم سيأخذون كل ما يفيدهم ويتركون الآخرين خلف ظهورهم. الجنوب، من ناحيته، ليس أرضاً مسجلة في (الشهر العقاري) باسم حكام صنعاء أو بإسم أحزابها وجماعاتها ومذاهبها، كلما ذهب حاكم تحولت الملكية إلى الحاكم الجديد وكلما تغير نهج ونظام أصبح على الجنوب أن يتغير وفقاً لذلك. وشعب الجنوب ليس مرتهن للمفاهيم النظرية العقائدية و “الهوية المركّبة” ومسوغاتها الجغرافية حين تصبح حياته على المحك. إنه ببساطة غير متاح للتبعية أو للأقلمة أو للتجزئة. و هو وحده من يختار مستقبله وقد تجاوز كل صنوف الصدمات المفتعلة و موجات التضليل وتضافر الإرهاب الإعلامي والتخريجات الالتفافية التي تسعى إلى تحويل حقائقه إلى وهم ووهم الآخرين إلى حقائق. الجنوب له تاريخ وهوية وطنية وسياسية وثقافية، قاوم خلال قرون طويلة محاولات الغزو والضم، ويعتبر أن مسيرته منذ بدء الحراك الجنوبي تندرج في ذلك النسق التاريخي من حروب الدفاع والحفاظ على الهوية ولا يمكن وضعها في سياقات مختلفة. الجنوب، الذي أهمله الأشقاء، سيكون حجر الزاوية. و الأحداث تثبت في كل مرحلة بأن دولة الجنوب لم تعد خياراً محلياً وإنما ضرورة للجميع وشرط رئيس للسلم والتوازن الإقليمي. ومع اهمية دعم الجيران لكن الجنوب لا يأتي إلا من داخله أولاً، من خلال توجيه كل الجهود ١٠٠٪ لإعادة اللحمة. و سيفعلها الجنوبيون لأنه لا يوجد طريق آخر.